في كل بقاع الأرض وكما هو معلوم يوجد وينتشر البشر الذي وجِد ليعمر هذه الأرض، ولكن بالمقابل هو يحتاج وبشكلٍ جدي وجوهري إلى من يُعمر حياته ويقومها ويضعها على المسلك الصحيح الممنهج.
فليس كل البشر حقيقةً بنفس القابليات العقلية والقدرات القادرة على إعمار الأرض ونفوسهم. فهناك البسيط والمتوسط والمتمكن جداً من هذه الناحية.
ولكن هل وصلت البشرية برمتها منذ نشأتها للآن إلى تحقيق تنمية حقيقية تلائم أن تسمى (تنمية)؟
هل حققت شعارات مروجي التنمية قدراُ ولو بسيطاً في إنقاذ الإنسان من الهلاك الذي هو فيه الآن؟
ربما أن لسان حال البشر يتكلم بوضوح، وربما تقول مؤتمرات التنمية وتقاريرها إننا حققنا جزءاً ولو يسيراً من تنمية الإنسان.
إذا كان الأمر هو كذلك فعليهم أن لا يتكلموا بملء الفم ويقولوا إن التنمية البشرية في أوجها، فهي في اضعف حالاتها ولم تحقق إلا نزراً بسيطاً لا يجدي نفعاً.
اليوم تكاد ظاهرة أو آفة الفقر تحط من مستوى النوع البشري، بل تحطم كل معنىً للحياة. فأعداد الفقراء وكمعلومات أكيدة في تزايدٍ فضيع وخطر للغاية. وعندما نتكلم عن تزايد الفقر قد لا نعني به فقر الحال والمال فقط وإنما يشمل كل نواحي الحياة الإنسانية.
إذ إن الفقير بعد محنته وصراعه مع الحياة وعدم حصوله على المعيشة اللازمة، ممكن أن يدخل في دهاليز التخلف وعدم الوعي في كل شيء مجبوراً بآفة وداء الفقر؛ الأمر الذي يعوّق عمل إنسان ممكن أن يشارك بجهدٍ خلاّق في بناء نفسه ومجتمعه، الشيء الآخر هو إن الفقر ممكن أن يعطّل كل قابلية نحو التقدم والتطور والازدهار، فالذي لا يجد رغيف خبز يقيه الجوع الكافر، لا يفكر بمثل هكذا فنتازيا.
فأين نحن من مقولة التنمية، وأين صيحات تقارير التنمية البشرية في تقليل عوز الفقراء وبقاع الفقر المؤلمة؟
إن المشكلة الخطيرة الأخرى، هي إن هناك علاقة عكسية بين التطور والتقدم الحاصل في العالم وبين ازدياد التخلف وعدم الوعي، ألا يدفع هذا التطور البشرية نحو السمو والرقي؟
إننا نلحظ أن المستويات العقلية البشرية كأنما تعود القهقرى، فما زالت تحبو في سلم الحضارة والتقدم.
فأين تنمية البشر من ذلك كله؟
إن ما يتم التركيز عليه الآن ليس جوهرياً بحد ذاته، فلا تُعالج المشكلة بالمساس ببعض أجزائها الخارجية، وإنما بالمعالجة من الجذور والأساس.
فكيف ندّعي بوجود تنمية بشرية والاضطرابات تعم العالم بلا هوادة من حروب ونزاعات وصراعات ومجاعات وفقر مدقع وإتلاف مقصود للثروة البشرية الموجودة؟
ألم تعمل الحروب الضروس القائمة الآن في اغلب بقاع العالم على تقزيم طاقات الإنسان والحد من قدراته التي من الممكن لو فسح المجال له لطورها في خدمته والبشرية على حدٍ سواء.
فلماذا لا تنادي مؤتمرات ومنتديات التنمية البشرية بالحد منها والقضاء عليها بشكلٍ حقيقي، حتى لا يقع الإنسان بعد نتائج هذه الحروب في الفقر والعوز والتخلف والعوق بكافة أنواعه؟
ألم تؤدي النزاعات والصراعات على مختلف مشاربها إلى تأخر وانحطاط الإنسان، فأين من ينادي بالتنمية من إيقافها؟
إن المسألة باتت ليس فقط توفير لقمة للعيش، وان توفرت بما يضمن الكرامة الإنسانية فجزيل الشكر، وإنما يجب أن يرافقها وعي بالإنسان نفسه، ذلك الإنسان المقهور، وتنمية عقليته لبناء نفسه بدءاً من أسرته وانتهاءً بالمجتمع الأكبر.
لذا يجب على دعاة التنمية أن ينظروا إلى الإنسان نظرة مجهرية ومن أعلى لتشخيص ما يجب تنميته عند ذلك الإنسان وما يجب العمل به.
فإطلاق الشعارات البراقة ممكن ولا يوجد أسهل منه، ونعتقد أن التحقيق ممكن أن يكون سهلاً بالتصميم الصادق الجاد وليس المتأتي من الحرفنة الكلامية.
وعليه فالتنمية البشرية ستبقى حبراً على ورق ولن تصل إلى الدرجة التي تستحق هذا اللفظ، إلا عندما تنخفض نسب المعاناة الإنسانية من كل النواحي ولفترات طويلة، حتى يصبح من الممكن الانتقال إلى مراحل أخرى من التنمية والتفكير جدياً بما يسمى بالتنمية البشرية المستدامة التي نخشى أنها لن ولم تتحقق يوماً للبشرية على هذه الأرض.