في القديم كانت بابل وروما، إسبارطة وأثينا، قرطاجة وغيرها من مدن العالم القديم حواضر تدل على العظمة والعالمية. واليوم فإن واشنطن وطوكيو ونيويورك وسنغافورة ودبي تظهر وكأنها مدن عالمية اكثر من كونها تابعة لاقاليم او دول او قارات. لكن من بين هذه المدن العالمية، أيها تستحق أن تصبح العاصمة العالمية بامتياز.. بمعنى أن تصبح مركز القوة العالمية التي تقود العالم او تستحوذ عليه؟!.
في نيويورك على سبيل المثال ينتصب مقر الامم المتحدة التي تعد تتويجا لافكار عمانوئيل كانط، وتجسد المرجعية القيمية والقانونية للسلام العالمي، وفكرة الوحدة بين الجنس البشري، والخط الفاصل بين الفوضى العالمية والحكومة العالمية حيث تخضع جميع الدول الاعضاء لمنطق واحد ومبادىء مساواة واحدة في السيادة (من زاوية ميثاق الامم المتحدة على الأقل). إلا أن المقر يلتمع من بعيد كأنه برج عاجي قائم على الشاطئ الشرقي لجزيرة مانهاتن، على ضفاف نهر الإيست ريفر بمدينة نيويورك، ومع ذلك يبقى رمزا للأمل بمستقبل السلام للجنس البشري. ولا يمكنك وانت تطالع المكان سوى ان تتأمل علم الأمم المتحدة الذي يتكون من شعار يمثل خريطة العالم مسقطة على القطب إسقاطا سمتيا متساوي الأبعاد ومحاطة بغصنين من أغصان شجر الزيتون. ودلالة هذين الرمزين واضحة. إذ يرجع استخدام غصن شجر الزيتون إلى أيام الإغريق حين كان يستخدم كرمز للسلام. وترمز خريطة العالم إلى المنطقة التي تُعنى المنظمة بتحقيق هدفها الرئيسي فيها، ألا وهو السلام. وقد باتت الواجهة الزجاجية السامقة لمبنى الأمانة العامة، وصرح الجمعية العامة بانحناءاته اللطيفة وامتداده المنخفض، مع علم الأمم المتحدة بلونيه الأزرق والأبيض، رموزا للمنظمة العالمية التي تمثل البنية الاولية للحكومة العالمية. وإلى رقعة الأرض التي يقوم عليها هذا المقر يفدُ ممثلو شعوب العالم البالغ عددهم 6 بلايين نسمة، لمناقشة القضايا العالمية المختلفة واتخاذ القرارات بشأنها، في حين تشع ألوان أعلام البلدان التي يمثلونها ممن يشكلون أعضاء الأمم المتحدة والـبالغ عددهم زهاء الـ 188 وتخفق هذه الأعلام في منظر منقطع النظير على سواريها المنظمة في شكل قوس واسع يمتد على أكثر من 500 قدم بمحاذاة ساحة الأمم المتحدة لتترك أنطباعا بعمق ودلالة عبارة (الكل من أجل الفرد والفرد من أجل الكل).
الا ان نيويورك ليست مركز العالم اذ تنافسها على ذلك مدينة اميركية أخرى هي واشنطن دي سي، بل ان زبغنيو بريجنسكي مستشار الامن القومي الاميركي السابق ومهندس انهيار الاتحاد السوفيتي، ذهب في كتابه (الاختيار) الى ان ظهور العاصمة العالمية الاولى قد أصبح بحكم الامر الواقع، لكن هذه العاصمة- في رأيه- ليست في نيويورك حيث تجتمع الجمعية العامة للامم المتحدة بشكل دوري، فقد برزت عاصمة عالمية ليست بين نهري هدسون وإيست لكن على ضفاف نهر بوتوماك. إن واشنطن دي سي هي العاصمة السياسية العالمية الاولى في تاريخ العالم. فلا روما ولا بكين القديمة (وكلتاهما عاصمتان لامبراطوريتين اقليميتين) ولا لندن الفكتورية (ربما باستثناء الاعمال المصرفية الدولية) اقتربت حتى من ان تكون نظيرة لها من حيث تركز القوة وصنع القرار في بضعة مبان في وسط واشنطن.
ويمضي بريجنسكي للتوضيح بأن القرارات التي تتخذ ضمن مثلثين متداخلين لكن متماسكين نسبيا تبرز قوة الولايات المتحدة على نطاق العالم وتأثيرها الكبير في طريقة تطور العولمة. ويرسم لنا بريجنسكي خارطة هذين المثلثين المتداخلين حيث يشكل خط ينطلق من البيت الابيض الى مبنى الكابيتول الضخم، ثم إلى البنتاغون الذي يشبه الحصن، ليعود مجددا إلى البيت الأبيض مثلث القوة. كما يبرز خط اخر ينطلق من البيت الأبيض إلى البنك الدولي الذي يبعد مسافة قريبة، إلى وزارة الخارجية، ليعود ثانية إلى البيت الأبيض (ويكتنف أيضا صندوق النقد الدولي ومنظمة الدول الاميركية) حدود مثلث التأثير العالمي. والمثلثان معا يرمزان- حسب بريجنسكي- إلى المدى الذي اصبحت عنده (الشؤون الخارجية) التقليدية شؤونا داخل هذا الطريق الدائري..
قد يبدو من سخرية الزمن اننا وعلى ارض اقدم المدن والحواضر العالمية في سومر وبابل واشور وبغداد ما نزال في مرحلة انطلاق الدولة وبنائها. وقد نظل نتبع وهما جديدا في عصر المدن ونجمع خيوط مدننا القديمة لينطلق عصر جديد من بابلنا او تتحد البشرية مجددا في بناء وهمنا ببداية عصر جديد.