مخاوف عصرنا
من الأمن العسكري إلى الأمن البيولوجي
(لا ادري تماما كيف سيكون الانسان في القرن الحادي والعشرين، بل ادرك ما لن يكونه)
ريجيس دوبريه
يعكس التفاوت الهائل والمتسارع بين الشمال والجنوب والشرق والغرب في ظل الاوضاع العولمية وغياب الديمقراطية الدولية التقسيم الطبقي الحاد بين من يملكون المستقبل ويصنعوه وبين دول متعلقة بقيود الماضي تحولت الى محض دمى تحركها خيوط تتحكم بها عواصم دولية وانه لامر محزن ان نعي اننا في غرفنا الداخلية مجرد ارقام احصائية لحكومة عالمية تدير اقدارنا ومستقبل اجيالنا ومن ثم فان مصطلح التبعية ان لم اقل العبودية يأخذ زخما جديدا ويتضح تحت ضوء ساطع لاستسلامات عجزنا عن رؤية المستقبل.
هكذا نصبح نحن موضوعا لفاعلية هذه القوى ووحدات منفعلة وليست فاعلة في ظل عالم يتشكل ويتحول عبر الصراع بشأن المستقبل الذي يحتفظ لنا بمكان الحظيرة الخلفية والساحة الجانبية لقمامة الايديولوجيات المتطرفة والهجينة. هذا مشروع الشرق الاوسط الكبير مثال جيد على مشروعات مستقبل معد لنا تقوم فيه قوى كبيرة بتشكيل صورة هذا المستقبل.وبعد احتلال العراق وتغيير مسار مستقبل اعرق بلد في العالم بات واضحا ان المستقبل حقا لم يعد من صنعنا واخذنا نطالع ما يكتب في الصحافة الاجنبية لكي ننجح في توصيف وضعنا. اذا كتبوا عن نشر الديمقراطية نرى انها مهمتنا وقدرنا لامحالة واذا قالوا اننا على وشك التقسيم فسنمهل العقل راحة واستراحة لكي لايعترف بتقسيم الامر الواقع ونترك الوعي غائبا في رطانة جدل نظري مشبع بطقسية المصطلح الغائم واذا صحونا ذات يوم على مانشيت رئيس في احدى كبريات الصحف الغربية يعلن اخيرا اندلاع الحرب الاهلية فسنصدق وقتها ان قتلنا لبعضنا يستحق وصف حرب اهلية وليس عنفا سياسيا او طائفيا او تضليلا اعلاميا مغرضا، لنتوقف برهة ونفكر ونتدبر لاجل الامساك بزمام مصيرنا بأن نضع عينا على المستقبل من حيث ادراك حدود وامكانيات وتحديات واقعنا وصياغة الاطر المناسبة للتفاعل معه.
حين احاور مثقفا عن متاهتنا اشعر بأنني اشبه بفأر فقد ادوات التحسس وارضخ لالم بالغ امام من يطالبني بارتداء مسوح العراف او المستشرف لافق لم تشرق شمسه بعد، هذا اذا لم تكن شمس المعنى محض اختراع او اسطورة لي كمثقف لايخرج اطار مهنتي عن الانتاج الرمزي أي انتاج الافكار التي تمنح وجودي شرعيته وحياتي معنى وغاية تستحق المضي للنهاية. التفت الى محاوري لاقول: نعم تفاقم الدمار العقلي والنفسي والظروف القاسية التي نمر بها كان مرجعها هو اغفال انظمتنا المتعاقبة عن التفكير بمستقبلنا وانشغالها بتحقيق مكاسب شخصية حاضرة وامبراطوريات عائلية وعشائرية وطائفية او تبرير سياساتها الايديولوجية او الدفاع القبيح عن وجودها غير المبرر شرعيا و غير الفاعل واقعيا واتلمس انطلاقة ابتسامة يأس في وجه صاحبي. تحفر بي الرغبة في استقرار امكانية خيال ملح لتصور يوم غد. واتحدث كمفرد بصيغة الجمع لانني اعرف بأني مثل غيري احتاج لوهم ما لابرر حياة تتناسل فيها الساعات وتتكرر كطبعة قديمة من الماضي، نعم اريد ان اشارك في صياغة المستقبل دون ان اصاب بفقدان الذاكرة، مستقبل تعمل فيه الارادة الوطنية الفاعلة عن طريق توفير إطار زمنى طويل المدى لما قد نتخذه من قرارات لها اثر على القادم على وفق نظرة طويلة المدى وبافق زمني طويل نسبيا. بدلا من الانغماس في المطالب التجزيئية التي تعامل مستقبل كل فئة او قومية عراقية على انها منفصلة عن الاخرى ومن ثم فان مستقبلها ليس واحدا بالضرورة وبدلا من التحجج بالمؤقت (اللي يمشي الحال!) والحاجة الحالية والضرورات الآنية ومتطلبات المرحلة..الخ من الشعارات المكررة والممقوتة لا بد من التأكيد على جوهر الوحدة الوطنية والتفاعل والتعايش المقرون بالتخطيط للمستقبل (اقرأ في المشروع المصري الطموح عن (الدراسات المستقبلية ومشروع مصر2020)- ويعتصرني الالم وافكر كم هي امنية بعيدة ان احلم بنخبة سياسية تطلع على المشروع و نخبة اكاديمية تصيغ مشروعا مماثلا له -فما تتيحه الدراسات المستقبلية من إضفاء طابع مستقبلى طويل المدى على تفكيرنا، إنما هو علامة مهمة من علامات النضج العقلى والرشادة فى اتخاذ القرارات. اطالع في الدراسة الكيفية التي تساعدنا فيها الدراسات الاستشرافية على صنع مستقبل أفضل، وذلك بفضل ما تؤمنه من منافع متعددة، من أهمها ما يلى:
1- اكتشاف المشكلات قبل وقوعها، ومن ثم التهيؤ لمواجهتها أو حتى لقطع الطريق عليها والحيلولة دون وقوعها.وبذلك تؤدى الدراسات المستقبلية وظائف الإنذار المبكر، والاستعداد المبكر للمستقبل، والتأهل للتحكم فيه، أو على الأقل للمشاركة فى صنعه.
2- إعادة اكتشاف أنفسنا ومواردنا وطاقاتنا، وبخاصة ما هو كامن منها، والذى يمكن أن يتحول بفضل العلم إلى موارد وطاقات فعلية. وهذا بدوره يساعد على اكتشاف مسارات جديدة يمكن أن تحقق لنا ما نصبوا إليه من تنمية شاملة سريعة ومتواصلة. ومن خلال عمليات الاكتشافات وإعادة الاكتشاف هذه، تسترد الأمة الساعية للتنمية الثقة بنفسها، وتستجمع قواها وتعبئ طاقاتها لمواجهة تحديات المستقبل.
3- بلورة الاختيارات الممكنة والمتاحة وترشيد عملية المفاضلة بينها. وذلك بإخضاع كل اختيار منها للدرس والفحص، بقصد استطلاع ما يمكن أن يؤدى إليه من تداعيات، وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج. ويترتب على ذلك المساعدة فى توفير قاعدة معرفية يمكن للناس أن يحددوا اختياراتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى ضوئها، وذلك بدلاً من الاكتفاء - كما هو حاصل حالياً - بالمجادلات الأيديولوجية والمنازعات السياسية التى تختلط فيها الأسباب بالنتائج، ويصعب فيها تمييز ما هو موضوعى من ما هو ذاتى.وهكذا بالنسبة لهذا المشروع الذي اتمنى ان يصبح هاديا لنا ايضا، فإن الدراسات المستقبلية تسهم فى ترشيد عمليات التخطيط واتخاذ القرارات من بابين: الباب الأول هو باب توفير قاعدة معلومات مستقبلية للمخطط وصانع القرار، أى توفير معلومات بشأن البدائل الممكنة وتداعيات كل منها عبر الزمن، ونتائج كل منها عند نقطة زمنية محددة فى المستقبل.
والباب الثانى هو باب ترشيد ما يجب أن يسبق عملية اتخاذ القرارات بشأن الخطط والسياسات من حوار وطنى على مستوى النخب وعلى مستوى الجماهير بقصد بلورة القضايا وبيان الاختيارات الممكنة، وما ينطوى عليه كل اختيار من مزايا أو منافع ومن أعباء أو تضحيات. إذ تؤمن التنبؤات المشروطة التى تقدمها الدراسات المستقبلية فرصاً أوسع للاتفاق أو للاختلاف على أسس واضحة. كما أنها تمكن من المساعدة فى حسم بعض أوجه الخلاف من خلال إعادة صياغة (الشروط الابتدائية (لبعض أو كل البدائل محل النقاش، وإعادة التحليل والحسابات فى ضوء الشروط المعدلة، ومن ثم الدخول فى دورات نقاش متتابعة لتقريب وجهات النظر والتراضى على اختيار محدد. ومثل هذا الإسلوب في (نظر المشروع) فى اتخاذ القرارات بمشاركة شعبية واسعة يمثل نقلة نوعية كبرى فى طبيعة الحوارات الوطنية التى كثيراً ما تفتقر إلى (الحوار) حقيقة، وغالباً ما تكون مقصورة على تسجيل المواقف أو تبادل الاتهامات. ولو سمح للدراسات المستقبلية بأن تؤدى مثل هذا الدور فى (تنوير) و(تفعيل) المناقشات بشأن القرارات الوطنية، فإن الحوار الوطنى سوف يكتسب حينئذ الكثير من السمات الحميدة للنقاش العلمى الذى عادة ما تكون مصادر الخلاف فيه واضحة، والذى يمكن فيه التوصل إلى حلول عملية من خلال دورات متعددة للتصحيح المتتابع أو الاقتراب التدريجى من الحل الامثل لصياغة المستقبل.وبشكل عام فأن الدراسات المستقبلية على الصعيدين الاقليمي والمحلي ومؤسساتهما والمهتمون بها لا تزال فى مراحلها الأولى تواجه الصعوبات نفسها التى يواجهها البحث العلمى. ويزيد احتياج دولنا العربية النامية إلى الدراسات المستقبلية عن احتياج الدول المتقدمة إلى هذه الدراسات، فما دامت غيرنا من القوى الكبرى هي من يخطط مستقبلنا فأن عالما يتحكم فيه الاخرون بمستقبلك لن تقوى على الخروج من براثن اوضاعه المتردية وسيجد ابناؤنا انفسهم في عالم محطم كنا نحن اشد المسهمين في دماره.