الخلفية
أدخل الخديوي إسماعيل الجيش المصري سلسلة من المغامرات العسكرية الفاشلة في الحبشة وحرب القرم والمكسيك لأسباب سياسية خائبة وتحت إمرة مرتزقة غربيين يفتقدون الخبرة العسكرية. تلك المغامرات العسكرية أنهكت و حطمت الجيش المصري وأفقدته التأييد الشعبي وأثقلت كاهل الخـزانة المصرية بالديون (مما أدى إلى إشهار افلاس مصر وهي الحالة الوحيدة في تاريخ الاقتصاد العالمي) وأكسـبت مصـر من الأعداء ما كانت في غنى عنه:
الحملة الفاشلة على الحبشة في 1875 - 1876 (حملة الحبشة) تحت قيادة جنرالات الجنوب الأمريكي (الكونفدرالي) المدحورين في الحرب الأهلية الأمريكية.
* حرب القرم
* حرب المكسيك
النشأة
أحمد عرابي باشا
ولد عرابي في 1 أبريل 1841 في قرية هرية رزنة بمحافظة الشرقية. عندما شب عن الطوق، أرسله والده الذي كان عمدة القرية إلى التعليم الديني حتى عام 1849 ثم التحق بالمدرسة الحربية. ارتقى أحمد عرابي سلم الرتب العسكرية بسرعة حيث أصبح نقيباً في سن العشرين.
امتاز أحمد عرابي "بطول القامة" (180 سم) وتناسق الوجه، وغلاظة الشفاة وكثافة الحاجبين. مظهره الخارجي هذا – كما زعم المعاصرون كان السبب في ترقيته سريعا في عهد سعيد باشا (كذا). كان في العشرين من عمره يوم نال رتبة مقدم، في الجيش ولقب قائمقاما وأصبح ياورا للخديوي، لكنه كان في عد الرضا أيام اسماعيل باشا ولم يرق الى رتبة أعلى إلا بعد انصرام نيف وعشرة أعوام، فنال رتبة عقيد في الجيش ولقب "أميرالاي". وبالمناسبة ، اذا كانت تقييمات العديدين من الكتاب البورجوازيين نحو طموح عديم الكفاءة وصنيعة ثرثار وأمي، مرفوضة. فإن نجاريان يؤيد تأكيد المستشرق روتستين بأن عرابي رغم زيه العسكري المهيب ظل في الواقع فلاحا عادياً شبه أمي. ويردد مع إيڤانوڤ بأنه "لم يتلق تعليما عسكريا خاصا ولم يتميز بأية حنكة في التدريب العسكري".[1]
وقد قيم لوتسكي الضباط الذين خرجوا من أحضان الفلاحين ، ورفاق عرابي في السلاح بأنهم "من العناصر الديمقراطية الراديكالية". ووضعهم في موقع معارض من "الضباط الأشراف الباشوات"، فكان ديدنه الأساسي التذكير بالتيارات القائمة داخل الجيش، وطنية كانت أم اجتماعية، ولاسيما أنه سجل في مكان آخر من كتابه "كان ابنا لفلاح مصري من قرية هرية رزنة الواقعة في الوجه البحري"، لا بل وأنه أكد تأكيد شاهد العيان المعاصر أن الضباط المصريين لم يتقاضوا رواتبهم شهورا كاملة، و"أن عوائلهم عانت الجوع".
الجزم بالأصل الفلاحي للأميرالاي عرابي باشا لا يقتصر على لوتسكي وحده، وهو عار عن الحقيقة تماماً. كان ابنا لواحدا من أغنياء الفلاحين الذي عين عمدة (شيخ البلد). وكان قد ورث عن أبيه في الشرقية ثمانية فدادين (زهاء 3.5 هكتارات) من الأرض. استفاد من تفاقم أوضاع الفلاحين الفقراء الذين أصابهم الخراب فأوصل - ملكيته ابان خدمته العسكرية – إلى 750 فداناً أي ما يعادل 240 هكتارا. وأصبح من كبار الفلاحين العقاريين. ينبغي التذكير هنا أن من يملك خمسين فداناً وما فوق من الأرض في مصر يعد من طبقة الاقطاعيين الذين كانوا يشكلون نسبة 1.55% من سكان مصر ويمتلكون 43.8% من الأرضي المزروعة. وقد أصاب كيلبرگ الحقيقة في تحديده هوية عرابي باشا الطبقية- الاجتماعية: "كان من كبار الملاكين الذي استغل الفلاحين وحلم دوماً بأن يصبح اقطاعيا كبيرا، وقد تحقق حلمه فعلاً".
الضباط "الجائعون" من غير العرب الذين انضموا الى الجمعية السرية، كانوا أيضا "فلاحين" من نوع عرابي باشا. و"كانت أوضاعهم المادية تخولهم حق الانتساب الى الفئات الميسورة في المجتمع المصرية"، على حد تعبير المستشرقة تشرنوڤسكايا. وقد وصفهم المستشرق الروسي نيرسيسوڤ بأنهم "ارتبطوا اجتماعية بطبقة صغار الملاكين – الاقطاعيين في الريف". أما گولدوبين فقد كان على حق تماما حين قال: "لقد خرج هؤلاء الضباط من صفوف الملاكين العقاريين الجدد، ومن أحضان الفلاحين الأغنياء في الريف".
تجدر الاشارة هنا الى الحقيقة الهامة التالية: إن البورجوازية التي تشكلت في مطلع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، يمكن اعتبارها "مصرية" مجازاً. ومن الحقائق المسلم بها أن الأجانب شكلوا القسم الأساسي من سكان المدن البورجوازيين، في حين كانت العناصر المختلطة بهم من المصريين العرب أو الأجانب المتمصرين (المسلمين) ممن يعدون على الأصابع. كان التجار الوسطاء من الأوروبيين القادمين من جنوب وشرق المتوسط. ولذلك نطلق مجازا تسمية البورجوازية الوسيطة المصرية على أولئك الناس الذين تحكموا في الصادرات والواردات والأعمال المصرفية والتشييد والبناء والتجارة الداخلية والصناعة المتدنية.
كان حملة العلاقات الرأسمالية من المصريين "شبه البورجوازيين" (تماذج أنماط الاستغلال الاقطاعي وشبه الاقطاعي مع نمط الانتاج الرأسمالي) من ممثلي الأسرة الخديوية، الذين شكلوا غالبية مطلقة بالنسبة لملاكي الأراضي الأجانب، وهم من كبار الاقطاعيين والملاكيين العقاريين الدخلاء ومن متوسطي الملاكين العرب. وقد وسع الأخيرون أملاكهم الخاصة على حساب أراضي أبناء بلدهم من الفلاحين الذين تعرضوا للخراب، أو عن طريق التدابير القسرية كالضرب والاهانة وغيرها من الوسائل التأديبية التي حاكوا فيها كبار الاقطاعيين المحليين. وكانوا يتتلمذون على أيدي الملاكين الاقطاعيين الأجانب في مجال الاستثمار الرأسمالي البشع. أجل، كانوا يستغلون كد وعرق الفلاحين الحقيقيين مع أولئك الضباط "الفلاحين" الذين أوكل اليهم أمر استثمار الفلاحين بوساطة شتى أنواع السخرة، والذين لم يجمعهم أي جامع بالوصف الذي أعطاه لوتسكي إياهم "عناصر ديمقراطية راديكالية وطنية". اللهم سوى الكفاح الذي سيخوضون غماره للحافظ على وجودهم وتعزيز مواقعهم من خلال الاصطراع مع الفريقين القويين: رجال الاقطاع والملاكين المحليين الذين "تبرجزا رغما عنهم" أولاً، ومع كبار الاقطاعيين الأجانب الذين "تحولوا رغم أنفهم الى شبه اقطاعيين".
كان بمقدور الضباط "الفلاحين" الموصوفين "بالعناصر الديمقراطية الراديكالية" أن يوطدوا علاقاتهم "بالبورجوازيين المدنيين" داخل المدن الكبيرة، حيث كانت البورجوازية التجارية المصرية تعاني سكرات الموت منذ مطلع القرن في جو من أطماع الدول الاستعمارية الكبرى والتأثير القوي النفوذ للشركات الرأسمالية الاحتكارية. وبكلام إجمالي كانت تعيش ضمن ظروف خانقة ان كان على الصعيد الاقتصادي أم السياسي داخليا وخارجيا معا. هؤلاء التجار حكم عليهم موضوعيا بالفناء والاندثار من جراء الاسلوب المبتذل والمهتري الذي مارسوا فيه نشاطهم التجاري – المالي في ظل غياب حماية ورعاية الدولة. أضف الى ذلك أن تدهور الحرف أصبح ناجزا، لأن أصحاب المؤسسات المهنية اعتمدوا على مساندة الدوائر العسكرية مقابل دفع مبالغ طائلة لها بالطبع.
اذا كانت الأوضاع على هذه الحال عصرئذ، فانها ازدادت حدة وتفاقما في أواخر الربع الثاني من القرن التاسع عشر، حين أصبحت الفئات العليا من التجار وأرباب المهن الحرة التي أفرزتها طبقة العسكر خاضعة لا لإمرة "الباشاوات الجراكسة"، وانما أصبحت تحت رحمة فئة الضباط "الفلاحين" الذين تسللوا بوسائل مختلفة الى هاتيك المناصب القيادية، وبالتالية قامت بدور "جابي الضرائب". ومن المضحك المبكي أن الضباط "الفلاحين" كانوا يتسترون بقناع الحفاظ على الرأسمال الوطني، وبتعبير آخر الدفاع عن الأغنياء "الوطنيين" ضد استفزازات وضغوط الرأسماليين الأجانب، متخذين من ذلك مظلة واقية لحماية التجار المصريين الذين كانوا يدوسون بأقدامهم أبسط المعايير البورجوزاية وينتهكون قدس أقداس قواعد العلاقات الرأسمالية.
كان الضباط "الفلاحين" يتطلعون الى الرتب العسكرية العالية (مقدم وما فوق) ليس من موقع الحافز المادي فقط، فاذا كان البنباشي ينال شهريا مرتبا قدره ثلاثة آلاف قرش، والمقدم (القائمقام) ثلاثة آلاف وستمائة قرش، فان راتب الأميرالاي (العقيد) يقفز فوق عشرة آلاف، وأمير اللواء الى خمسة عشرة ألف قرش. وفيما يخص الأميرالات (عرابي باشا مثلا) فان مرتبهم لا يتوقف عند زيادته بمقدار النصف (50%) فقط، بل ويتعداه الى نيل لقب الأميرالاي الذي يعني بحد ذاته نيل لقب الباشا السامي. وقد أكدت تشرنوفسكايا قائلة: "كان معظمهم من الفلاحين الذين ينظرون الى الخدمة العسكرية بوصفها الوسيلة الوحيدة التي تمكنهم من الارتقاء الى درجة اجتماعية أعلى".
كان الضباط المصريون العرب يصبون ليس الى زيادة رواتبهم من 30-36 ألف حتى 100-150 ألف قرش وحسب، بل كانوا يتطلعون خصوصا الى الانتقال من رتبة البكوية الى الباشوية، ومن طبقة الاقطاعيين – الملاكين الى طبقة الأشراف. وبالتالي الحصول على الامتيازات الواسعة الممنوحة للباشاوات الجراكسة. فكانت الهوية "الفلاحية" التي أطلقها عليهم خصومهم ومنافسوهم، أو تبنوها بأنفسهم في سبيل الاستفادة من شعار "مصر للمصريين" الجذاب، خدمة لمآربهم المهنية الفئوية الضيقة في جوهرها ومحتواها، وفي سبيل كسب شعبية واسعة داخل الأوساط العسكرية. كيف لا ومعظم الجنود من أبناء الفلاحجين الذين كانوا يعبرون عن سخطهم وتذمرهم ليس من مواقع فئوية – مهنية فحسب، بل من مواقع اجتماعية – اقتصادية وقومية – وطنية واعية. ومن هذا الموقع بالذات اتسم شعار "مصر للمصريين" بطابع شعبي ديمقراطي استقطب آمال وتطلعات الغالبية الساحقة في الجيش المصري. وبهذا الصدد كتب كولفين يقول: "يتألف الجيش أساسا من المصريين أبناء دافعي الضرائب التعساء، كان تعاطف الجيش بكل مستوياته مع أبناء الوطن حتما".
كلمات كولفين الأخيرة تدفعنا للتركيز على الاعتبار الهام التالي: كانت الخدمة الاجبارية في الجيش بمثابة حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على أبناء الفلاحين. فمن الحقائق الثابتة في مصادر التاريخ العربية والأجنبية (الجبرتي، الدبلوماسي الروسي قسطنطين بازيلي، الأكاديمي الفرنسي بوجولا، العالم الانكليزي لين وغيرهم) أن السوط كان يرمز الى سلك الضباط في مفهوم الجنود الفلاحين. ومن هنا يصبح جليا أن النفخ في صور الشعار الوطني وجعله أكثر شعبية ورواجا من الضرورات اللازمة بالنسبة لعرابي باشا وأنصاره في كفاحهم ضد الباشوات الجراكسة، باعتباره الدعامة الأساسية الاجتماعية تحلقيق النتائج المرجوة.
مهما يكن من الأمر، فقد اصطمدت تطلعات الضباط العرب الاجتماعية أم الاقتصادية بالمعارضة الشديدة من قبل "الباشاوات الجراكسة" ، فاتخذت طابع التمرد العكسرية داخل الثكنات. فانضمام الضباط الى معسكر "اللائحة الوطنية" وموالاتهم "للحزب الوطني المصري" في أبريل 1879 شكلا غطاءا قوميا لتطلعاتهم وطموحاتهم، فضلا عن نيلهم الدعم القوي من قبل رجال الاقطاع والأشراف الملتفين حول الخديوي إسماعيل، أي من "الجناح المدني للتنظيم الصاعد".
ومن اللافت للنظر أن تبني الضباط لشعار "مصر للمصريين" اتصف بتناقش ظاهري ملموس. "فالعداء للأتراك" (الكراهية ازاء العناصر الدخيلة الناطقة بالتركية من الأتراك العثمانيين الأصليين او الذين استتركوا من الجركس والأكراد والألبانيين وغيرهم) لدى هذه الفئة من الضباط، لم يقف حائلا دون انتعاش النزعة العثمانية في أوساطهم، إما عن قناعة وإيمان، واما مواربة واحتيالا، ودون اخلاص – ولو ظاهريا – للسلطان الحليفة والتفاني في سبيل السلطنة العثمانية . أولئك الناس الذين لم يكونوا يعدون من الموالين للسلطان. فالأمر لا يتعلق فقط بالخضوع للسلطان – الخليفة من منطلق الايمان بالإسلام، ولا بحوية الدعم المتوقع من الأستانة باتجاه تقوية الميول المعارضة لتسلط الحكام الأتراك المحليين، وللحد من الهيمنة المتزايدة للأجانب الكفار. بل هنا اعتبار خطير وهام جدا يتربط مباشرة بمصالح فئوية – ضيقة ومنافع مهنية محددة. فالترقي من رتبة الضباط الذين هم دون الأشراف – البكوات الى رتبة الأميرالاي – الباشا لا يتم إلا بموافق السلطان.
وهنا بالضبط يتجلى لنا الوجه الآخر والأكثر أهمية في التناقض الظاهري. فالشعار الذي رفعه الضباط الوطنيون "مصر للمصريين" كان موجها ضد احتكار الأتراك لرتبة الضباط الأشراف، كما كان نصله الحاد موجها بالضرورة ضد السلطنة، التي كانت تضفي هالة قدسية على ذلك الاحتكار. بيد أن توسيع مضامين الشعار من قبل العناصر الموالية للنزعة العثمانية والمتفانية في اخلاصها للسلطان ، كان يعني موضوعيا تأجيج المشاعر المعادية للنصارة والاستفزازات الاستمعارية الأجنبية التي غذت أيضا الميول الذاتية المعادية للأوربيين عامة، والتي وجدت تجلياتها في اطار الحزب الوطني. وهذا الأمر أدى بالضرورة الى تقليص وتحجيم طبيعة الشعار المعادي في الواقع للسلطان والسلطنة، والى تصاعد حمأة الدعوات المنادية بالتوجه صوب الباب العالي. هذا العامل الهام يجب أخذه بالحسبان في محاولتنا الرامية للبحث عن الدوافع التي حالت دون عرقلة انضمام الضباط ذوي الرتب الدنيا الى "الجناح العسكري" البارودي في الحزب الوطني المصري.
وفي آخر المطاف، كانت الجبهة "الوطنية" التي التأمت في ربيع عام 1879، موجهة أساسا ضد الاعتداءات من جانب انكلترة وفرنسة، وكان السلطان يتوقع منها كل الخير والمنفعة، أو بالأحرى كان السلطان يمتع ناظريه بمشاهدة الخلاف الذي ذر قرنه بين تابعه الخديوي المصري وأصدقائه الأوربيين، الأمر الذي قد يتيح له القيام بدور الوسيط بين الطرفين المتنازعين.
وعلى كل حال، كان خروج شعار "مصر للمصريين" عن نطاق ثكنات الضباط والجنود الذين كانوا مستعدين تماما للسير وراء زعمائهم وقادتهم. لم يكن يعني اطللاقا أنه أصبح شعارا مصريا شاملا. وبتعبير آخر، ما كان بامكان هذا الشعار أن يكتسب شعبية واسعة بالقدر الذي يخرجه من السر إلى العلن لو لم يجد الغليان الشعبي انعكاسات له في أوساط اجتماعية قوية التأثير والفعالية.
التخطيط البرلماني
في البداية رقي عرابي باشا، ثم أصبح مساعد-وزير الحربية، وأصبح وزيرا في نهاية المطاف. وبدأ خططه بتأسيس مجلس برلماني. في نهاية أشهر الثورة (يوليو - سبتمبر 1882)، تولى عرابي منصب رئيس الوزراء. ونتيجة لشغوره بالخطر، دعا الخديوي توفيق السلطان لقمع الثورة، ولكن الباب العالي تردد.
التدخل البريطاني
الثورة العرابية
أحمد عرابي يسلم الخديوي توفيق مطالب الشعب في مظاهرة ميدان عابدين
المقال الرئيسي: الثورة العرابية
الثورة العرابية وسميت آنذاك هوجة عرابي، وقامت إثر قرار طرد الضباط المصريين من الجيش المصري.
* الخديوي: كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا.
- عرابي: لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم.
استجاب الخديوي لمطالب الأمة، وعزل رياض باشا من رئاسة الوزارة، وعهد إلى شريف باشا بتشكيل الوزارة، وكان رجلا كريمًا مشهودًا له بالوطنية والاستقامة، فألف وزارته في (14 سبتمبر 1881)، وسعى لوضع دستور للبلاد، ونجح في الانتهاء منه وعرضه على مجلس النواب الذي أقر معظم مواده، ثم عصف بهذا الجهد تدخل إنجلترا وفرنسا في شئون البلاد، وتأزمت الأمور، وتقدم "شريف باشا" باستقالته في (2 فبراير 1882).
وتشكلت حكومة جديدة برئاسة محمود سامي البارودي، وشغل عرابي فيها منصب "وزير الجهادية" (الدفاع)، وقوبلت وزارة "البارودي" بالارتياح والقبول من مختلف الدوائر العسكرية والمدنية؛ لأنها كانت تحقيقًا لرغبة الأمة، ومعقد الآمال، وكانت عند حسن الظن، فأعلنت الدستور، وصدر المرسوم الخديوي به في (7 فبراير 1882 م).
غير أن هذه الخطوة الوليدة إلى الحياة النيابية تعثرت بعد نشوب الخلاف بين الخديوي ووزارة البارودي حول تنفيذ بعض الأحكام العسكرية، ولم يجد هذا الخلاف مَن يحتويه من عقلاء الطرفين، فاشتدت الأزمة، وتعقد الحل، ووجدت بريطانيا وفرنسا في هذا الخلاف المستعر بين الخديوي ووزرائه فرصة للتدخل في شئون البلاد، فبعثت بأسطوليهما إلى شاطئ الإسكندرية بدعوى حماية الأجانب من الأخطار.
ولم يكد يحضر الأسطولان الإنجليزي والفرنسي إلى مياه الإسكندرية حتى أخذت الدولتان تخاطبان الحكومة المصرية بلغة التهديد والبلاغات الرسمية، ثم تقدم قنصلا الدولتين إلى البارودي بمذكرة مشتركة في (7 رجب 1299 هـ = 25 مايو 1882 م) يطلبان فيها استقالة الوزارة، وإبعاد عرابي وزير الجهادية عن القطر المصري مؤقتًا مع احتفاظه برتبه ومرتباته، وإقامة "علي باشا فهمي" و"عبد العال باشا حلمي" –وهما من زملاء عرابي وكبار قادة الجيش- في الريف مع احتفاظهما برتبتيهما ومرتبيهما.
وكان رد وزارة البارودي رفض هذه المذكرة باعتبارها تدخلا مهينًا في شئون البلاد الداخلية، وطلبت من الخديوي توفيق التضامن معها في الرفض؛ إلا أنه أعلن قبوله لمطالب الدولتين، وإزاء هذا الموقف قدم البارودي استقالته من الوزارة، فقبلها الخديوي.
بقاء عرابي في منصبه
غير أن عرابي بقي في منصبه بعد أن أعلنت حامية الإسكندرية أنها لا تقبل بغير عرابي ناظرًا للجهادية، فاضطر الخديوي إلى إبقائه في منصبه، وتكليفه بحفظ الأمن في البلاد، غير أن الأمور في البلاد ازدادت سوءًا بعد حدوث مذبحة الإسكندرية في (11 يونيو 1882م)، وكان سببها قيام مكاري (مرافق لحمار نقل) من مالطة من رعايا بريطانيا بقتل أحد المصريين، فشب نزاع تطور إلى قتال سقط خلاله العشرات من الطرفين قتلى وجرحى.
وعقب الحادث تشكلت وزارة جديدة ترأسها "إسماعيل راغب"، وشغل "عرابي" فيها نظارة الجهادية، وقامت الوزارة بتهدئة النفوس، وعملت على استتباب الأمن في الإسكندرية، وتشكيل لجنة للبحث في أسباب المذبحة، ومعاقبة المسئولين عنها.
قصف الإسكندرية
ولما كانت إنجلترا قد بيتت أمرًا، فقد أعلنت تشككها في قدرة الحكومة الجديدة على حفظ الأمن، وبدأت في اختلاق الأسباب للتحرش بالحكومة المصرية، ولم تعجز في البحث عن وسيلة لهدفها، فانتهزت فرصة تجديد قلاع الاسكندرية وتقوية استحكاماتها، وإمدادها بالرجال والسلاح، وأرسلت إلى قائد حامية الإسكندرية إنذارًا في (10 يوليو 1882 م) بوقف عمليات التحصين والتجديد، وإنزال المدافع الموجودة بها.
ولما رفض الخديوي ومجلس وزرائه هذه التهديدات، قام الأسطول الإنجليزي في اليوم التالي بضرب الإسكندرية وتدمير قلاعها، وواصل الأسطول القصف في اليوم التالي، فاضطرت المدينة إلى التسليم ورفع الأعلام البيضاء، واضطر أحمد عرابي إلى التحرك بقواته إلى "كفر الدوار"، وإعادة تنظيم جيشه.
وبدلاً من أن يقاوم الخديوي المحتلين، استقبل في قصرالرمل بالإسكندرية الأميرال بوشامب سيمور قائد الأسطول البريطاني، وانحاز إلى الإنجليز، وجعل نفسه وسلطته الحكومية رهن تصرفهم حتى قبل أن يحتلوا الإسكندرية. فأثناء القتال أرسل الإنجليز ثلة من جنودهم ذوي الجاكتات الزرقاء لحماية الخديوي أثناء انتقاله من قصر الرمل إلى قصر التين عبر شوارع الإسكندرية المشتعلة. ثم أرسل الخديوي إلى أحمد عرابي في كفر الدوار يأمره بالكف عن الاستعدادات الحربية، ويحمّله تبعة ضرب الإسكندرية، ويأمره بالمثول لديه في قصر رأس التين؛ ليتلقى منه تعليماته.
مواجهة الخديوي ورفض قراراته
رفض عرابي الانصياع للخديوي بعد موقفه المخزي، وبعث إلى جميع أنحاء البلاد ببرقيات يتهم فيها الخديوي بالانحياز إلى الإنجليز، ويحذر من اتباع أوامره، وأرسل في 16 يوليو إلى "يعقوب سامي باشا" وكيل نظارة الجهادية يطلب منه عقد جمعية وطنية ممثلة من أعيان البلاد وأمرائها وعلمائها للنظر في الموقف المتردي وما يجب عمله، فاجتمعت الجمعية في (غرة رمضان 1299هـ= 17 يوليو 1882م)، وكان عدد المجتمعين نحو أربعمائة، وأجمعوا على استمرار الاستعدادات الحربية ما دامت بوارج الإنجليز في السواحل، وجنودها يحتلون الإسكندرية.
في اليوم نفسه إجتمع يعقوب سامي بعدد من وكلاء النظارات وكبار المواطنين والضباط.. وكان عدد الذين حضورا 70 شخصا.. وقرر الحضور إنعقاد إجتماع موسع من كبار العلماء والرؤساء الدينيين وأمراء العائلة الخديوية والأعيان.. وعقد هذا الإجتماع الموسع في اليوم التالي الإثنين 17 يوليو ، وحضره نحو 400 شخص في مقدمتهم الشيخ الإمبابي شيخ الإسلام والبطريرك كيرلس الخامس ، وقرروا ضرورة حضور الخديوي توفيق إلى العاصمة القاهرة ، وتشكيل لجنة برياسة علي مبارك لإبلاغ هذا القرار للخديوي ، وذهب علي مبارك ولم يعد للقاهرة. وعرف الناس أن المراقبين الماليين الإنجليز أخذوا الاموال الموجودة في صندوق الدين إلى المراكب الحربية.
وكان رد فعل الخديوي على هذا القرار هو اصدار بيان في نفس اليوم 17 يوليو 1882، بعزل عرابي من منصبه، وتعيين "عمر لطفي" محافظ الإسكندرية بدلا منه. وأردف البيان الخديوي بأن تجهيزات الحرب مسؤولية عرابي والخديوي غير مسئول عن تصرفات عرابي. ولكن عرابي لم يمتثل للقرار، واستمر في عمل الاستعدادات في كفر الدوار لمقاومة الإنجليز. بعد انتصار عرابي في معركة كفر الدوار أرسل عرابي إلى يعقوب سامي يدعوه إلى عقد اجتماع للجمعية العمومية للنظر في قرار العزل.
وفي (6 رمضان 1299 هـ = 22 يوليو 1882 م) عُقِد اجتماع في وزارة الداخلية، حضره نحو خمسمائة من الأعضاء، يتقدمهم شيخ الأزهر وقاضي قضاة مصر ومُفتيها، ونقيب الأشراف، وبطريرك الأقباط، وحاخام اليهود والنواب والقضاة والمفتشون، ومديرو المديريات، وكبار الأعيان وكثير من العمد، فضلا عن ثلاثة من أمراء الأسرة الحاكمة.
وفي الاجتماع أفتى ثلاثة من كبار شيوخ الأزهر، وهم "محمد عليش" و"حسن العدوي"، و"الخلفاوي" بمروق الخديوي عن الدين؛ لانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده، وبعد مداولة الرأي أصدرت الجمعية قرارها بعدم عزل عرابي عن منصبه، ووقف أوامر الخديوي ونظّاره وعدم تنفيذها؛ لخروجه عن الشرع الحنيف والقانون المنيف.
اغلاق ترعة السويس
لجأ الإنجليز والخديوي توفيق لمختلف الحيل لكسر شوكة أحمد عرابي ورجاله. صدر منشور من السلطان عبد الحميد الأول يعلن عصيان أحمد عرابي وأكد دليسبس أن الإنجليز لن يهاجموه في الجبهة الشرقية عن طريق قناة السويس لأن القناة محايدة. وانضم محمد سلطان باشا صراحة إلى الخديوي توفيق ضد عرابي. يوسف خنفس وعدد من الضباط. إحتل الإنجليز بورسعيد. وفي 21 أغسطس وصلت القوات الهندية إلى السويس وفي 25 أغسطس سقطت المسخوطة.
معركة القصاصين
المقال الرئيسي: معركة القصاصين
وقعت معركة القصاصين في 28 أغسطس 1882 أثناء تقدم الجيش البريطاني غربا في محافظة الإسماعيلية بقيادة جنرال جراهام حوصر من قبل الأهالي العزل فطلب الإمداد بمزيد من الذخيرة في الساعة 4:30 عصرا فوصلته الساعة 8:45 مساءا مما مكنه من القيام بمذبحة كبيرة بين الأهالي. [1]
معركة التل الكبير
معركة التل الكبير
المقال الرئيسي: معركة التل الكبير
وقعت معركة التل الكبير في 13 سبتمبر 1882 (الموافق 29 شوال 1299هـ) الساعة 1:30 صباحا واستغرقت أقل من 30 دقيقة. الإنجليز فاجأوا القوات المصرية المتمركزة في مواقعها منذ أيام والتي كانت نائمة وقت الهجوم. والقي القبض على أحمد عرابي قبل أن يكمل ارتداء حذائه العسكري (حسب اعترافه أثناء رحلة نفيه إلى سيلان) (ISBN 1-85532-333-
. حصدت المدفعية البريطانية في تلك المعركة أرواح نحو 10,000 مصري (حسب أحمد شوقي - انظر قصائد هجائه المرفقة لاحقاً).
عقب المعركة قال الجنرال گارنت ولسلي قائد القوات البريطانية أن معركة التل الكبير كانت مثال نموذجي لمناورة تم التخطيط الجيد لها مسبقا في لندن وكان التنفيذ مطابقا تماما كما لو كان الأمر كله لعبة حرب Kriegspiel . إلا أنه أردف أن المصريون "أبلوا بلاءاً حسناً" كما تشي خسائر الجيش البريطاني.
اختار ولسلي الهجوم الليلي لتجنب القيظ ولمعرفته بتفشي العشى الليلي (night blindness) بشكل وبائي بين الجنود المصريين إلا أنه لاحظ أن الجنود النوبيين والسودانيين لم يعانوا من هذا المرض.
وفي اليوم نفسه 15 سبتمبر عام 1882، عاد أحمد عرابي إلى القاهرة ليدافع عنها. وواصلت القوات البريطانية تقدمها السريع إلى الزقازيق حيث أعادت تجمعها ظهر ذلك اليوم ثم استقلت القطار (سكك حديد مصر) إلى القاهرة التي استسلمت حاميتها بالقلعة عصـر نفس اليوم. وقبض على أحمد عرابي وعلى العرابيين وعلى ثلاثين ألفا من المصريين الوطنيين.
عقد الإنجليز ما سُمى بالمجلس العرفي الذي قرر رفع عريضة الإستسلام إلى الخديوي توفيق.. وطلب المجلس من عبد الله النديم كتابة هذه العريضة. كتبها عبد الله النديم ولم يعتذر عن الثورة وألقى بالمسئولية كلها على الإنجليز وتوفيق. إعتذر المجلس العرفي عن عدم رفع العريضة بصياغة النديم إلى الخديوي. وكلف بطرس غالي بصياغة عريضة جديدة وكتبها وفيها كثير من المحاسنة والملاينة. وتلك هي العريضة التي رفعت للخديوي توفيق. وكان ذلك بداية الإحتلال البريطاني لمصر الذي دام 72 عاماً.
إثنين رفضا الإعتذار عن الثورة ، علي الروبي الذي قبض عليه وتقرر نفيه إلى السودان، حيث مات هناك وعبد الله النديم الذي ظل يكافح بما سمحت له ظروف الإختفاء لأكثر من تسع سنوات.
المحاكمة
عرابي في الأسر مع طلبة باشا
محاكمة عرابي
احتجز أحمد عرابي في ثكنات العباسية مع نائبه طلبة باشا حتى انعقدت محاكمته في 3 ديسمبر 1882 والتي قضت باعدامه. تم تخفيف الحكم بعد ذلك مباشرة (بناءا على اتفاق مسبق بين سلطة الإحتلال البريطاني والقضاة المصريين) إلى النفي مدى الحياة إلى سرنديب (سيلان). انتقل السفير البريطاني لدى الباب العالي، لورد دوفرن، إلى القاهرة كأول مندوب سامي - حيث أشرف على محاكمة أحمد عرابي وعلى عدم اعدامه.
النفي إلى سريلانكا
أحمد عرابي في المنفى بسيلان
وفي الساعة الواحدة بعد ظهر يوم 28 ديسمبر عام 1882 غادرت الباخرة مريوط ميناء السويس برفقة الأسطول البريطاني لنفي أحمد عرابي وزملائه ومحمود سامي البارودي ولاحقاً عبدالله النديم إلى سريلانكا حيث استقروا بمدينة كولومبو لمدة 7 سنوات. بعد ذلك نقل أحمد عرابي و البارودي إلى مدينة كاندي بذريعة خلافات دبت بين رفاق الثورة.
أرسل أحمد عرابي اعتذارات عدة إلى الملكة فيكتوريا انتهت بموافقة البريطانيين عام 1901 على العفو عنه واعادته إلى مصر.
العودة إلى مصر
عاد أحمد عرابي من المنفي في 30 سبتمبر 1901م ليقيم مع أولاده بعمارة البابلي بشارع الملك الناصر المتفرع من شارع خيرت، بحي السيدة زينب. وفي 13 أكتوبر 1901 صدرت جريدة المقطم الإحتلالية ، وبها حديث مع عرابي يلقي فيه سيفه ويعتذر عن الثورة.
لدى عودته من المنفى عام 1901 سعى أحمد عرابي إلى إقناع الإنجليز بتنصيبه ملكاً على مصر وبلاد العرب. وقد أعلن عن نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب. وقد أثارت تلك المطالبة الخديوي وأنصاره، مما عرض أحمد عرابي لحملة إعلامية شعواء تتقدمها جريدة اللواء والمجلة المصرية وأمير الشعراء أحمد شوقي. طالع هجاء أحمد شوقي لأحمد عرابي في معرفة المصادر.
كما أحضر أحمد عرابي شجرة المانجو (المانجو) إلى مصر لأول مرة. توفي في القاهرة في 21 سبتمبر 1911. ويعتبر قائد أول ثورة مصرية فى العصر الحديث.
عرابي بعد العودة من المنفى
ذكراه
* سميت على اسمه إحدى محطات مترو الأنفاق في منطقة وسط مدينة القاهرة.
* يحمل اسمه ميدان كبير في مدينة الاسكندرية.
* توجد صورته في شعار جامعة الزقازيق.
* يحمل اسمه شارع في محافظة الجيزة - شارع أحمد عرابي.
* سمي على اسمه طريق ساحلي في قطاع غزة - شارع أحمد عرابي.